الأربعاء

بعيداً عن وطني وثقافتي ولغتي وأرضي...المنفى



جاء في معجم لسان العرب أن النفي أنما هو إخراج أو طرد الإنسان من بلده.



وكما قال أدونيس فللمنفى صور عديدة، فمنفى اللغة في الطرد منها، ومنفى الوطن في الطرد منه، وكذلك الثقافة.



لذا فالمنفى أنواع تتفق فقط في إنتفاء الوجود من الشيء أيا كان، أي أنه حالة إغتراب عن الذات عن اللغة عن الثقافة عن الوطن، عن أي عنصر من عناصر الهوية.



ما ذكرته ههنا يجعلني دوما أتساءل: أين أنا؟



أغترب حاليا عن وطني وثقافتي ولغتي وأرضي، ولكنني ههنا في أكثر حالاتي إستيعابا لذاتي المغتربة بكل عناصر هويتها السابقة، مغتربا عنها متماهيا معها حد التطابق.



لا أود تعميم تجربتي، فأنا أتحدث عني دون أي إسقاطات زمانية ولا مكانية ولافردية خارج أناي أنا، عبدالله بياري.



أسير في لغتي، كمن توج بتاج لا يراه ويراه غيره، أحتفي بها وهي العزيزة في هذا الزمان والمكان، حيث أنا، ذلك يجعلني أكثر تحسسا لها لموسيقاها وتاريخها وأسطوريتها بألف بهاء وبهاء، ليس بدافع العاطفة – عاطفة الإنتماء – التي غالبا ما لا تستطيع السمو فوق الحدود الجغرافية للغة: اللهجات، مثال ذلك سعادتي بجريدة عربية وسط جرائد فرنسية وإنجليزية وألمانية وأسبانية، عند بائع الجرائد الكهل ذو الشاربين الكثيفين، والذي غالبا لم تستثره تلك اللغة ذات الإلتفافات والدورانات التي لا تعيش في الزوايا والتي لا تعرف من الأبعاد إثنين فقط أكثر من دقيقة هي الزمن الذي احتاجه ليرتبها في العرض، لسبب بسيط فهو لا يتقن سوى الفرنسية لذا فتلك الجريدة العربية لم تثره، وهي تنتقد تعديات النبيذ الفرنسي على تاريخنا وأرضنا العربية مستعمرا مستشرقا والآن مراقبا.



تلك السعادة – سعادتي- لا علاقة بعنوان تلك الجريدة ايا كان، ولا تواجهاته بقدر شمولية لغتي: لغة الضاد التي طربت لها السماء، وجمعت ذلك العنوان وأضداده وأحزابه وتيجانه وسلاطينه وملوكه ورؤسائه وقتلته وخونته وشهداءه تحت مظلتها.



إن حالة الإستيعاب الذاتي لذاتي قد تبدو نتاجا منطقيا لحالة الإغتراب هذه إلا أنها من أخطر النقاط في إنعطافة العلاقة مابين الذات والمنفى، بل قد تكون هي الأخطر بالإطلاق.



أعلم أن الوطن والمنفى لدى الكثيرين، ومنهم أنا، لا يعدو أن يكون فكرة، إلا أن التسليم بذلك بالإطلاق من أخطر حالات فقدان الإنتماء والهوية خارج حدود العاطفة، واختصارا للفكرة في مظاهرها، من دون مقاربة للواقع والخيال أو البيت والطريق.



بكلمات أخرى، إن انفتاحي على ذاتي في المنفى لا يعد إنغلاقا عليها ولا إعتزالا للآخر، كما هو الحال بالنسبة للكثير من المغتربين-المنفيين، الذين ينفتحون على أنفسهم حد الإنغلاق عليها، ورفض الآخر، ونجد لتلك الحالة الكثير من المسببات المنطقية لدى أصحابها منها مثلا فساد الآخر المفترض سلفا أو المترجم خطأ ببعض المفردات الروحية عن الآخر، لا لعيب فيه بقدر ماهي نتيجة طبيعية لإعتزاله ونسج الإفتراضات عنه لمجرد اختلافه وانعدام لغة التواصل، لذا فالكثير من تلك المفردات لا يوجد لها مرادفات.



فما لاحظته لدى الكثيرين من عرب المنفى انغماسهم في هويتهم بعزلة عن عالمهم، ولفظ (عالمهم) المستخدم بدلا من (العالم من حولهم) لها دلالاتها، فهم عناصر من عناصر ذلك العالم وجزء فيه شاؤوا أم أبوا، لذا فرفض الآخر والإنغلاق على الذات، إنما هو رفض للعالم وعزل لفكرة المنفى وتجميدها، وشلّ أحد عناصرها الهامة بل الأهم وهي الهوية، التي لا تكتسب بعدها الفاعل وكينونتها المميزة لها إن لم يكن لها فضاؤها الديناميكي في علاقة المد والجزر بينها وبين الآخر أيا كان ومتى كان وتحت الشمس دون أي شروط.



تلك هي الحالة الأولى من التفاعل في المنفى بين الفرد ومنفاه، التفاعل الهوياتي إن صح التعبير، أما الحالة الثانية فهي النقيض لسابقتها وإن تطابقت معها في الإعتراف بأن الوطن فكرة، في الأولى انغلق عليها مقدسا من مقدسات الآلهة، وفي الثانية تنكر لها وعزلها في البعد، فأصبح المنفى حينها حالة انعتاق من الهوية والأرض والإنتماء أو الوطن بكامل إسقاطاته التاريخية واللغوية والدينية والثقافية، لتصبح حينها عملية التفاعل الحضاري في المنفى هي عملية مماهاة مع الآخر، وغالبا تظل تلك العملية حبيسة مرحلة وسطى ما بين وطن – فكرة لايملك الفرد خواصها التي انعتق منها كاملا لأنها عبء حضاري، ومنفى خسر فيه فكرة الوطن ولم يكتسب هوية المنفى بكل خواصها كاملة، لأن الهوية لا تعود أبدا لنقطة الصفر، مهما تنكرنا لها.
وللحديث بقية





بقلم: عبد الله البياري

* كاتب فلسطيني من مدينة يافا مقيم في فرنسا

ليست هناك تعليقات: