ترددت قبل كتابة كلماتي هذه، من باب أن مجلّتنا هي لعرض أوضاع إنتهاك حقوق الإنسان في العالم العربي، وتعريف المواطن العربي عليها، إلاّ أنني كنت كلما أقرأ عن حياة هذا العالم الجليل؛ كلّما شاهدت دفاعه عن حقوق الإنسان وعن قيم الإنسانية السامية، وعن محاولاته العديدة لدرء الفتنة وطرد ذيولها إن وجدت، فالعالم والمفكر العظيم "فضل الله"، كان في فكره ناشداً للحرية، وهذا ما يظهر في كتبه التي تزيد على السبعين في شتّى مواضيع الحياة، ومنها إعطاء المرأة لحقوقها، وقضايا الإستنساخ، وحفظ الأجنّة لأهداف طبيّة، والتقريب بين المذاهب الإسلامية، والحوار الإسلامي المسيحي، والتجديد في الدين، وشرح الإسلام على طبيعته السامية المحبّة للآخر لا كما يصوره بعض أهل التطرف.
العالم الكبير كان جريئاً في طرح أفكاره ونظرياته الفقهية، التي كانت توضع موضع جدال فكري وعقائدي واسع، ومنها فتاويه بطهارة كلّ إنسان، وبجواز تقليد غير الأعلم، وباعتماد علم الفلك والأرصاد في إثبات الشهور القمرية، وغير ذلك، وقد قال بعض الفضلاء وهو يشير إلى بعض الفتاوى السابقة، إنه وصل إلى نفس النتائج، والفرق أن "السيّد كان أجرأ منّا"..
واجه العلاّمة الكبير الإسلام المنعزل، من خلال جولاته في شتى أصقاع المعمورة شارحاً للإسلام من باب الحوار البنّاء، والفكرة التي تصل لعقل وقلب المستمع بكل ليونة، على أنّ الإسلام هو "فكر إنساني عالمي"، فتميز سماحته بأنه محاور هادىء ليتعرف الشباب والعالم على الإسلام بسهولة وبعيداً عن الآراء والأحكام المُسبقة؛ ومن خلال القوّة في الطرح من خلال قراءاته وثقافته اللا محدودة.
كما دعا سماحته للحوار "الإنساني - الإنساني"، ومن جملته الحوار "الإسلامي - المسيحي"، وهذا ما شجّع رجال دين للتسابق للحوار المتميز والراقي والهادف مع فكره المعطاء.
وهكذا أطلق سماحته شعار "الوحدة الإسلامية"، ودعا إلى الحوار العقلاني الموضوعي في شتّة المواضيع التي تعتبر بين المذاهب باباً للخلاف، وشدّد على أهمية التحاور بين الشباب، والمثقفين وليس إقتصار الحوار على رجال الدين لأن الحوار من النوع الأخير لن يفضي لنتيجة، فالسيد يقول: " هؤلاء سيتحدّثون كلٌ من برجه العاجي".
كما أن سماحته لم يداهن الحركات الإسلامية المتطرفة، التي أساءت لصورة المسلمين في العالم، وروّجت للإسلام على أنه دين إرهاب، بإستخدامها طرق غير إنسانية في تعاطيها مع جبروت الغرب، من هنا وصف سماحته لتلك الحركات: "إنها إسلامية في عقائدها إلا أنها غير حكيمة في وسائلها"؛ ومن هذا الباب استنكر تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، والذي اعتبره "عملاً لا يقره عقل ولا دين ولا منطق".
واعتبر الإمام المرجع "فضل الله" أنه لا يوجد تقديس لعلماء الدين، ويحق للمجتمع أن ينتقدهم، وعلى العالم أن يجيب منتقديه عن تساؤلاتهم، حتى بقضاياه الشخصية، انطلاقاً من أن المرجع بموقعه لا يعود يملك نفسه، وعليه أن يقدّم حساباته للأمّة.
ويعتبر سماحته أن من كان مسؤولاً عن قوم، فعليه خدمتهم، حتى ولو منعه ذلك من النوم والراحة، فيقول سماحته: "أشعر أن مسؤوليتي تمنعني من أن أعيش حالة فراغ، أو أن أعيش حالة راحة لاهية عابثة".
وفي سياق ذلك، يَصفُ العلاّمة "فضل الله" الحياة بأنّها الحيوية العقلية والروحيّة والحركية التي تمثل الوجود الإنساني الذي يبحث عن فكرٍ ينغرس فيه، وعن مستقبل يصنعه، وعن روح يسمو معها ويصفو.
وهكذا، برحيل العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، إفتقدت الإنسانية رجُلاً حكيماً، فيلسوفاً وعالماً عظيماً، قارئاً وكاتباً بديعاً، مُسلماً مُنفتحاً، مُجتهداً مُجدّداً، مُؤسّساً لعشرات المدارس ودور الأيتام والمعوّقين، ولمؤسسات إقتصادية مرموقة، ستبقى راوياً عن أفكاره ومشاريعه البنّاءة في خدمة الإنسان.
فرحات أسعد فرحات - أمين عام المرصد العربي لحقوق الإنسان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق